تخيُّل وضع الصحة والسلامة بعد كوفيد – 19 من خلال الجلسات الحوارية مع الشباب
التعافي الاقتصادي والبيئي من تداعيات كوفيد–19 يحتم توحيد جهود الحوكمة العالمية، وتعزيز تعاون الشباب مع الحكومات والشركات ومؤسسات المجتمع المدني
بقلم سعادة رزان خليفة المبارك، العضو المنتدب، صندوق محمد بن زايد للمحافظة على الكائنات الحية.
وجهت لي جمعية الإمارات للطبيعة قبل عدة أيام دعوة للمشاركة في واحدة من الجلسات الافتراضية الحية التي ينظمها برنامج "تواصل مع الطبيعة" تحت عنوان "لنعيد تخيل المستقبل". وقد أتاح لي ذلك الفرصة للمشاركة في حوار تفاعلي بنّاء مع أكثر من 200 شاب وشابة من مختلف أنحاء دولة الإمارات العربية المتحدة، وأسعدني أن أرى كيف ساهمت فترة الإغلاق غير المسبوقة جراء تفشي كوفيد – 19 في تعزيز وعي وإدراك الشباب من مختلف الدولة بقضايا البيئة، وارتباطها الوثيق بصحة وسلامة الإنسان؛ وقد أتاحت لنا الجائحة فرصة للتعلم والحوار وإعادة تقييم الأمور وتوجيهها نحو مسار مختلف وأفضل.
يمثل العام 2020 فرصة استثنائية للتفكير وإعادة النظر في علاقتنا مع البيئة، وخلق مستقبل أكثر استدامة للبشرية. وقد أجمع الشباب الذين تحدثت إليهم أنّ شكل الحياة في المرحلة القادمة سيكون مختلفاً تماماً عما كان عليه قبل الجائحة؛ فإلى جانب الجهود لتحقيق التعافي الاقتصادي يجب أن يكون هناك خطة موازية لحماية البيئة والحفاظ على مواردها تقود الى تعافي الطبيعة ، وأن نقر بالأثر السلبي الكبير الذي أحدثه تدمير الطبيعة على صحة ورفاه الإنسان، وإلاّ فإن تفشي الوباء التالي سيكون مسألة وقت فقط، وقد كشفت الدراسات العلمية أن 60 – 70% من الأوبئة الجديدة التي انتشرت منذ تسعينيات القرن الماضي كانت حيوانية المنشأ، أي أنها أوبئة انتقلت من الحيوان إلى الإنسان نتيجة تدخل الإنسان في الطبيعة بصورة واسعة. وفي هذا الصدد يشير تقرير (كوفيد 19: نداء عاجل لحماية الإنسان والطبيعة) الصادر عن الصندوق العالمي للطبيعة أن العوامل البيئية التي تدفع لظهور الأمراض الحيوانية تتمثل في تجارة واستهلاك الحيوانات البرية عالية المخاطر، وتغير أساليب استخدام الأراضي مما يؤدي إلى إزالة الغابات وتصحرها، والتوسع في الزراعة والإنتاج الحيواني المكثف غير المستدام.
لم يعد بوسعنا غض الطرف أو إغفال حقيقة أن أصل هذه الجائحة، والأزمة الاجتماعية والاقتصادية العالمية التي ترتبت عليها، هي أزمة بيئية بحتة، وأن تدمير المساحات البرية والتعدي على الأنواع الحيوانية التي تعيش فيها، هو تدمير لخط دفاعنا الأول الذي يوفر الحماية ضد المسببات الرئيسية للأمراض، وهو ما يفقدنا النظم البيئية الصحية التي هي بمثابة الدرع الطبيعي لحماية البشرية. لذا، وبالتوازي مع جهود الحد من تفشي كوفيد–19، يجب علينا معالجة الأسباب الأساسية اللازمة، وليس التركيز على معالجة الأعراض فقط، فإذا ما أردنا منع انتشار مسببات الأمراض والأوبئة المستقبلية علينا وضع حد لانهيار المنظومة البيئية.
قرأت مؤخراً بعض الأفكار على وسائل التواصل الاجتماعي التي تم نشرها من خلال مصممة إماراتية ساعدتني في إدراك أن هذه الجائحة وتداعياتها الاقتصادية قد لا تكون ذاتها على جميع الناس، إذ قالت: (وضعنا هذا الوباء جميعاً في نفس القارب، إلا أننا لسنا كذلك، بل نحن نهيم في محيط واسع، بعضنا في قوارب صغيرة ضعيفة، وبعضنا الآخر على سفن كبيرة أكثر أماناً، إلا أن معظمنا يبحر ضمن قوارب خشبية تتلاطمها أمواج البحر، البعض يحاول النجاة وتسلق حطام القوارب العائم فيما يغرق الكثيرون). نحن في دولة الامارات وبفضل قيادتنا الرشيدة لدينا فرص قوية لتجاوز هذه الجائحة والتعافي من آثارها، فهل سيكون للشباب في العالم فرص متساوية في الحصول على الرعاية الصحية اللازمة عقب هذه الجائحة؟ هل يمكننا تجنب حدوث الأوبئة في المستقبل؟ نعم يمكننا ذلك؛ ولكن يجب ألا نسعى فقط لتحقيق الانتعاش الاقتصادي، وإنما يجب العمل، في الوقت ذاته، على حماية الطبيعة والحفاظ عليها، وأن نتعلم من تجاربنا السابقة ونستخلص العبر لإعادة توجيه نمط حياتنا نحو نهج استهلاك أكثر استدامة يراعي قدرة الطبيعة على الاستمرار والتجدد.
إن أصل تراثنا الثقافي قائم على فهم حقيقة أن النجاح والتقدم الاقتصادي يجب أن يتحقق بالتوافق مع الجهود المبذولة لحماية الطبيعة. وهناك العديد من القصص والمأثورات للمغفور له بإذن الله الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان (طيّب الله ثراه)، الذي عُرِف عنه حبه العميق للطبيعة، وحرصه الشديد على حماية البيئة والحفاظ عليها. ومن هذه القصص العزيزة على نفسي وعلى الكثيرين هي أمر الشيخ زايد بتغيير مسار طريق قيد الإنشاء في منطقة العين، بعد أن لاحظ خلال زيارته المنطقة للاطلاع على المشاريع التطويرية فيها، أن الطريق يتجه مباشرة نحو واحدة من أقدم الأشجار في منطقة العين. وعندما أبلغه المهندسون أنهم سيقطعون تلك الشجرة، أمر، رحمه الله، بإنشاء مسربين للطريق يمران عن جانبي الشجرة من دون أن يمساها، ليعودا ويلتقيا في مسار واحد. لقد أدرك الشيخ زايد طيب الله ثراه هذا الرابط الهام بين البيئة وصحة وسلامة الإنسان، وأهمية التعايش والتوازن ما بين الإنسان وبيئته، وأن تقدمنا لا يمكن أن يكون على حساب الموارد التي هي حق من حقوق أجيال المستقبل.
ختاماً، أود أن أحث الشباب وأدعوهم لمواصلة مثل هذه الحوارات الهامة، كتلك التي بدأناها عبر سلسلة الجلسات الافتراضية الحية لبرنامج "تواصل مع الطبيعة". أعلم أننا كأشخاص نميل دائماً للتواصل مع من يشابهوننا بأفكارنا ومبادئنا، بيد أننا نحتاج إلى التواصل والتحدث أيضاً مع الأشخاص الذين لا يدركون مدى أهمية العلاقة التي تربط الإنسان بالطبيعة لإحداث التغيير المطلوب. لن تصدقوا مدى التأثير الذي يمكن أن تحدثه آراؤكم وسلوكياتكم في نظرة الآخرين تجاه مسألة الاستدامة والحفاظ على الطبيعة، لأن عدوى العمل المنظم والتعاون والطاقة الإيجابية أقوى من عدوى الوباء. لذا، هيا بنا نغتنم هذا الزخم ونتعهد بمواصلة العمل البنّاء معاً من أجل مستقبل مستدام لنا جميعاً.